
صمت الأبناء في المناسبات مؤشر نفسي واجتماعي خطير يحتاج إلى تدخل مبكر
يشهد المجتمع في السنوات الأخيرة تزايداً ملحوظاً في ظاهرة صمت الأبناء في المناسبات العائلية والاجتماعية، وهو سلوك قد يبدو في ظاهره طبيعياً أو نابعاً من الحياء، لكنه في الحقيقة قد يخفي وراءه مؤشرات نفسية واجتماعية تستدعي الانتباه.
فبينما كان يُنظر في الماضي إلى الطفل الصامت أمام الكبار على أنه مؤدب ومهذب، أصبح هذا الصمت اليوم في كثير من الحالات علامة على اضطراب أو قلق داخلي، كما يؤكد أطباء ومختصون نفسيون وأسريون.
الأسباب النفسية والعاطفية وراء صمت الأبناء
توضح الدكتورة ريهام عمار، أخصائية علم النفس، أن التغيرات الثقافية والاجتماعية التي يشهدها المجتمع جعلت من الصمت سلوكاً مثيراً للقلق أكثر من كونه علامة أدب.
وتضيف أن الخجل الشديد والرهاب الاجتماعي والصمت الانتقائي من أبرز المظاهر التي تصاحب هذه الظاهرة، إلى جانب الآثار النفسية الناتجة عن التنمر أو الإهانة أو التحرش، وهي تجارب قد تزرع الخوف والعزلة في نفس الطفل.
وترى أن الطفل الذي يعاني من الرهاب الاجتماعي يصمت في جميع المواقف تقريباً، سواء داخل الأسرة أو في المدرسة أو أمام الأقارب، على عكس الصمت الانتقائي الذي يظهر في مواقف محددة فقط.
وتؤكد أن التمييز بين الخجل الطبيعي والحالة النفسية يتطلب مراقبة دقيقة؛ فالخجل يزول مع الوقت، بينما الصمت المرضي يعطل حياة الطفل ويحدّ من تواصله مع الآخرين.
صمت الأبناء نتيجة الخلافات الأسرية والفجوة الثقافية
من جانبها، ترى الدكتورة أمينة الماجد، المستشارة الأسرية، أن الخلافات الزوجية، وغياب التواصل بين الأبوين، والتوتر الأسري تعد من أهم الأسباب التي تدفع الطفل للصمت أو الانطواء.
وتوضح أن الطفل الذي يعيش في أجواء يسودها الصراع أو الصمت الزوجي، يتعلم بدوره أن الصمت وسيلة للهروب من المشكلات، فيكتم مشاعره ويتجنب الحديث أمام الآخرين خوفاً من التورط في أزمات عائلية.
كما أشارت إلى أن الفجوة اللغوية والثقافية الناتجة عن التعليم في مدارس أجنبية واعتماد الأسر على مربيات غير ناطقات بالعربية، تفقد الأطفال القدرة على التحدث بلغتهم الأم بطلاقة، وتجعلهم مترددين في المناسبات الاجتماعية.
وأضافت أن هذا الانفصال الثقافي يؤثر على هوية الطفل وشعوره بالانتماء، إذ يجد نفسه غريباً في محيطه، غير قادر على التواصل بثقة أو التعبير عن ذاته بلغته الأصلية.
التكنولوجيا الحديثة ودورها في زيادة العزلة الاجتماعية
تحذر الدكتورة أمل الجابري، استشارية طب الأطفال، من أن الإفراط في استخدام الأجهزة الذكية جعل الأطفال يعيشون في عالم افتراضي بعيد عن الواقع، ما أدى إلى ضعف مهارات التواصل لديهم وظهور صمت اجتماعي مقلق في التجمعات العائلية.
وتشير إلى أن الدراسات الحديثة أثبتت أن الأطفال الذين يقضون ساعات طويلة أمام الشاشات يعانون من تأخر لغوي وضعف في المهارات الاجتماعية، كما أن التواصل الافتراضي يجعلهم أقل قدرة على التعبير وجهاً لوجه.
وتوضح أن التعرض المبكر للشاشات، قبل سن الثالثة، يرتبط بمشكلات في النوم وتقلبات مزاجية تؤثر في التطور النفسي واللغوي للطفل، مؤكدة أن التفاعل الأسري الواقعي هو الأساس في تكوين شخصية متوازنة قادرة على التواصل والتعبير.
حماية الأطفال من آثار الصمت والانطواء
يؤكد المحامي عيسى بن حيدر أن قانون حقوق الطفل “وديمة” أقرّ حماية شاملة للأطفال من أي مخاطر نفسية أو اجتماعية قد تهدد سلامتهم، بما في ذلك الصمت الناتج عن الخوف أو الإهمال.
وأشار إلى أن القانون يلزم المؤسسات التعليمية والأطباء والأخصائيين بالإبلاغ عن أي مؤشرات خطر، مشدداً على أن الصمت المفاجئ أو العزلة غير المبررة قد تكون قرينة على تعرض الطفل لتجربة قاسية أو ضغط نفسي.
وأوضح أن الامتناع عن الإبلاغ في مثل هذه الحالات يُعد مخالفة قانونية، وأن الجهات المختصة تمتلك الصلاحية للتدخل الفوري لحماية الطفل وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي اللازم له.
نحو وعي أسري يحمي الأبناء من الصمت النفسي
يتفق الخبراء على أن مواجهة ظاهرة صمت الأبناء في المناسبات تبدأ من داخل الأسرة، عبر بناء بيئة آمنة مليئة بالحب والحوار، تتيح للطفل التعبير عن نفسه دون خوف أو نقد.
ويؤكدون أن تعزيز الثقة بالنفس، وإشراك الأبناء في الأنشطة الاجتماعية، وتقليل الاعتماد على الأجهزة الذكية، هي خطوات جوهرية لإعادة الأطفال إلى دائرة التفاعل الطبيعي مع الأسرة والمجتمع.
فالصمت ليس دائماً علامة خجل، بل قد يكون صرخة داخلية صامتة تستدعي الإصغاء قبل أن تتحول إلى عزلة مزمنة تؤثر في مستقبل الطفل وسلامته النفسية.