
استقالة بلا ورقة.. حين ينسحب الموظف نفسياً ويواصل العمل بجسد فقط
بدأ عدد متزايد من الموظفين في مختلف القطاعات بالتعبير عن حالة نفسية خاصة تُعرف بـ”الاستقالة الصامتة”، حيث يكتفي البعض بأداء المهام الأساسية دون مبادرة أو حماس، وكأنهم استقالوا داخلياً دون مغادرة مكاتبهم.
هذا السلوك لا يعني ترك الوظيفة، بل هو انسحاب ذهني وشعوري نتيجة شعور بالتجاهل وفقدان التقدير.
من يعيش هذه الحالة عادة ما يتعامل مع عمله وكأنه عبء يومي يؤديه لأجل الراتب فقط، متجنباً أي التزام إضافي، ومتخلياً عن روح المبادرة.
موظفون خاضوا هذه التجربة أرجعوا ما مروا به إلى شعور بالظلم وعدم الإنصاف، إلى جانب استنزاف طاقاتهم دون اعتراف أو مقابل معنوي.
وفي وقت بدأت فيه ظاهرة “الانسحاب الهادئ” تتوسع داخل بيئات العمل، يرى مختصون أنها تتطلب معالجة نفسية واجتماعية، لأن المتأثرين بها غالباً ما يكونون في رحلة صامتة للبحث عن الذات، وسط ضغط نفسي متراكم يدفعهم للتقوقع.
الموظفة فاطمة أحمد عبّرت عن شعورها بالإحباط من غياب الإنصاف في بيئة العمل، حيث ترى أن مجهوداتها الفردية تذوب داخل روح الفريق ولا تُقدّر بالشكل الذي تستحقه. شعور الظلم هذا، وفق ما قالت، جعلها تفقد الرغبة في بذل أي جهد إضافي
. وأشارت إلى أن الاستنزاف الجسدي والنفسي، المترافق مع تراكم المسؤوليات وانعدام الفرص، يؤدي في نهاية المطاف إلى ما يشبه الانفصال النفسي عن الوظيفة.
وترى فاطمة أن البيئة المؤثرة هي التي تصنع الفارق؛ فوجود إدارة عادلة تشجع على التعبير وتمنح الموظف فرصاً للنمو والتقدير يمكن أن يعيد الحماس ويمنع الانهيار النفسي.
كما دعت إلى تطوير برامج دعم نفسي داخل المؤسسات، وتدريب المدراء على فهم المشاعر وتعزيز ثقافة الامتنان داخل فرق العمل.
من جانبها، وصفت الموظفة حمدة عبدالله تجربتها مع الشعور بالانسحاب بالرغبة في الانعزال المؤقت الناتج عن الإرهاق الذهني لكنها أكدت أنها تحاول مواجهة هذا الشعور من خلال مراجعة ذاتها وتحديد أولوياتها، إلا أن غياب التشجيع والثناء من الإدارة، وضعف التواصل، ساهم في زيادة هذا الشعور.
وترى حمدة أن بيئة العمل قد تكون مصدراً للضغط أو الدعم، حسب أسلوب الإدارة، مشيرة إلى أن الإدارة الواعية يمكن أن تحول الضغط إلى فرصة، بينما تتسبب القيادة السلبية في تفاقم مشاعر العزلة وفقدان الانتماء. وأكدت أن التقدير ليس رفاهية، بل حاجة إنسانية تمنح الموظف دافعاً للاستمرار والعطاء.
بدوره، أوضح الدكتور أحمد العموش، أستاذ علم الاجتماع التطبيقي، أن الانسحاب من الحياة الاجتماعية داخل بيئة العمل هو رد فعل عقلاني في كثير من الأحيان، عندما لا يجد الشخص ما يحتاجه من دعم نفسي وعاطفي. ولفت إلى أن هذه الحالة لا ترتبط فقط بالعمل، بل يمكن أن تظهر لدى مختلف الفئات، من الأطفال وحتى الأزواج.
وأضاف أن الانسحاب النفسي يُعد أسلوباً ذاتياً لحماية النفس من الإنهاك، لكنه في الوقت نفسه يتطلب دعماً من البيئة المحيطة حتى لا يتحول إلى حالة مزمنة من الانعزال. وأكد أن الاستقالة النفسية لا تعني مرضاً نفسياً، بل قرار بالعودة إلى الذات، إلا أنها بحاجة إلى تدخل اجتماعي يعيد بناء شعور الفرد بقيمته.
وفي السياق ذاته، أشارت الأخصائية النفسية حصة الرئيس إلى أن تراكم الضغوط الحياتية، سواء في العمل أو العلاقات، هو ما يدفع الإنسان إلى الانغلاق، حيث يصبح الصمت والابتعاد وسيلة لتجنّب الصدام أو الانهيار.
ولفتت إلى أن مظاهر هذه الحالة تشمل الانطواء، قلة التعبير، الاعتماد على التجاهل، وتفضيل الوحدة.
وأوضحت أن تجاهل هذه العلامات قد يؤدي إلى مشاكل أعمق مثل الاكتئاب أو الشعور الحاد باليأس.
وأوصت باستخدام العلاج السلوكي المعرفي كطريقة فعالة لمساعدة الأفراد على فهم مشاعرهم وتغيير أنماط تفكيرهم وسلوكهم بشكل إيجابي، للعودة إلى التفاعل مع محيطهم دون ألم داخلي.
ويبدو أن الموظفين لم يعودوا قادرين على تحمل أجواء العمل القاسية من دون مقابل نفسي أو معنوي فالانسحاب الهادئ أصبح رد فعل طبيعي، يعكس فشل بيئة العمل في فهم احتياجات العنصر البشري.
وقد يكون هذا الانسحاب بمثابة رسالة غير منطوقة للإدارات بأن التقدير والدعم النفسي ليسا خياراً، بل ضرورة لبيئة عمل صحية.
وتشير تجارب وملاحظات الخبراء إلى أن هناك أربعة دوافع رئيسية تقف خلف الانسحاب النفسي، أولها الإرهاق المزمن، ثم الإحساس بعدم التقدير، إضافة إلى غياب فرص النمو الوظيفي، وأخيراً، سوء الإدارة وافتقارها للتعاطف. كلها عوامل تجعل الموظف في حالة حضور جسدي، وغياب نفسي، ينتظر فقط نهاية الدوام.