
د.سمر أبو الخير تكتب: المتحف المصري الكبير بوابة تمكين ذوي الهمم من الوصول إلى التاريخ
يرفع المتحف المصري الكبير رأس مصر عاليًا أمام العالم، ولكنه ليس أول قصة تستحق أن تُروى عن الذهب والتماثيل والعرش والفرعون، بل كانت قصة أم بسيطة اصطدمت بابتسامة الأمل لأول مرة في هذا المكان.
عاشت أم سنوات تُخبئ قلقها خلف ابتسامة مطمئنة، وتضبط ملامحها حين تمسك بيد طفلها على استحياء في الأماكن العامة كي لا يلتفت الناس إلى صوته العالي أو حركته المفاجئة.
ذهبت هذه الأم أخيرًا إلى المتحف المصري الكبير بصحبة طفلها المصاب بطيف التوحد أو بتأخر في النطق والكلام، بعدما قال لها الطبيب: جربي بيئة بصرية غنية، يمكن يستجيب.
وهناك أمام تمثال الملك رمسيس الثاني الضخم، وتحت ضوء بهو صُمم ليحكي تاريخ دولة كاملة، حدث ما يشبه المعجزة الصغيرة حين رفع الطفل عينيه وهمس: مَلِك… مَلِك… مَلِك.
في لحظة واحدة، لم تعد الأم تسمع ضجيج القاعة ولا وقع خطوات السياح ولا الشرح الأثري، بل سمع صوت ابنها وحده فانهارت دموعها فرحًا.
هذه اللحظة ليست مشهدًا عاطفيًا عابرًا في يوم مزدحم بالتصوير الرسمي، بل إعلانًا أقوى بأن المتحف يمكن أن يتحول من صرح عرض إلى فضاء للعلاج والتأهيل والدمج.
هذه الرسالة ليست تقليدًا وإنما معيار أخلاقي يعلو: مصر لا تعرض ماضيها الذهبي فحسب، بل مستقبلها الذي يفتح أبوابه للجميع.
متحف الطفل ومساحة التعلم الحيّة
يتطلب الدمج تجهيزات متكاملة في المتحف، من ممرات واسعة ومنحدرات للكراسي المتحركة وإعارة فورية لكرسي متحرك وعربات وخدمات مصاعد مع إرشاد صوتي للمكفوفين.
كما تحتاج المساحات إلى مجسمات ونماذج لمسية مع كتابة برايل كي يستطيع الطفل ضعيف البصر أن يلمس التاريخ.
تتحقق هذه الفكرة عندما يقف الطفل أمام رأس ملكي عملاق أو نموذج مركب خوفو ويُطلب منه أن يشير، يصف، يختار بين صورتين، أو يكرر كلمة بسيطة.
هذه الجلسة ليست درسًا تقليديًا بل تفاعلًا اجتماعيًا يقوده مرشدة آثار وتشارك فيه أمثلة من الأطفال.
هذه البيئات العامة الآمنة نادرة في المدرسة التقليدية لكنها ممكنة داخل المتحف، فتصبح غرفة علاج نطقي كبيرة لكنها كريمة وجميلة وبلا وصمة.
ثم نصل إلى فكرة “متحف الطفل” كمساحة تعليمية حية مصممة على عين الطفل، لا على عين البالغ.
ليس الهدف فقط أن يقول له إن حضارة عمرها آلاف السنين، بل أن يجعله يبني ويعيد تركيب مشهد من حياة المصريين.
تُبرز هذه المساحة أن الفضول ليس رفاهية تعليمية، بل مفتاح الدخول إلى العالم المشترك عندما يشارك الطفل ويعبّر.
وتشمل مهارات الحياة اليومية مثل الوقوف في الصف، والانتقال بين القاعات، وطلب الاستراحة، والتعامل مع غرباء، والرد على أسئلة بسيطة.
إن المتحف يوفر بيئة آمنة لتدريب هذه المهارات دون إحراج، فتصير الأم مطمئنة بأن طفلها حاضر ومقبول.
ليس الافتتاح مجرد مزار سياحي، بل معيار أخلاقي يفتح التراث للجميع ويعيد تعريف الدمج في المجتمع.
المتحف ليس مجرد عرض لمومياوات وكنوز، بل بيتًا لكل طفل مصري، حتى الذي لم يجد كلماته بعد.
وإن تحقق ذلك، يصبح المتحف المصري الكبير نقطة تحول في الدمج لأطفال ذوي القدرات الخاصة، من توحد وتراجع لغوي ومتلازمة داون وإعاقات حركية وبصرية، وفقًا للدراسات الأكاديمية العالمية.